أولاً- الرؤية هي إدراك المرئي من الجهة المقابلة، وتكون مع العلم، خلافًا للنظر؛ لأنه يقال: نظرت، فلم أر شيئًا. ولا يقال ذلك في: رأيت. والأصل في الرؤية أن تكون بالحاسة؛ نحو قوله تعالى:﴿ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ (التكاثر:5 - 7). وقد تكون بالوهْم والتخيُّل؛ نحو قوله تعالى:﴿ وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ ﴾(الأنعام:27). وقد تكون بالتفكُّر؛ نحو قوله تعالى:﴿ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ ﴾ (الأنفال:48). وقد تكون بالفؤاد؛ نحو قوله تعالى:﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾(النجم:11). أما الرؤية في نحو قوله تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾(الإسراء:99) فهي من رؤية البصر. وقد يتعُدَّى فعل الرؤية بـ{ إلى }، فيقتضي معنى النظر المؤدي إلى الاعتبار؛ كما في قوله تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ﴾(الملك:19).
ثانيًا- أما الإدراك فهو بلوغ أقصى الشئ. ويقال: أدرك الصبيُّ، إذا بلغ غاية الصبا؛ وذلك حين البلوغ. وقوله تعالى:﴿ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ﴾(يونس:90) يعني: أنه الغرق قد أحاط به من جميع الجهات. وقوله تعالى:﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾ (الأنعام:103). يعني: أن الأبصار لا يمكنها أن تحيط به سبحانه. ومنهم من حمله على رؤية البصيرة، وذكر أنه قد نبَّه به على ما روي عن أبى بكر- رضى الله عنه- في قوله:” يا من غاية معرفته القصور عن معرفته “؛ إذ كان غاية معرفته تعالى أن تعرف الأشياء، فتعلم أنه ليس بشيء منها، ولا بمثلها؛ بل هو مُوجِدٌ كلَّ ما أدركته.
ومثل قوله تعالى:﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾(الأنعام:103) في نفي الإدراك على سبيل الاستغراق والشمول قوله تعالى:﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ﴾(طه:110) في نفي الإحاطة. قال الرازي:” وذلك يدل على كونه تعالى منزَّهًا عن المقدار والشكل والصورة، وإلا لكان الإدراك والعلم محيطين به؛ وذلك على خلاف هذين النصَّين. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه، وإن كان جسمًا، لكنه جسم كبير؛ فلهذا المعنى لا يحيط به الإدراك والعلم ؟ قلنا: لو كان الأمر كذلك، لصح أن يقال بأن علوم الخلق وأبصارهم لا تحيط بالسموات ولا بالجبال ولا بالبحار ولا بالمفاوز؛ فإن هذه الأشياء أجسام كبيرة، والأبصار لا تحيط بأطرافها، والعلوم لا تصل إلى تمام أجزائها. ولو كان الأمر كذلك، لما كان في تخصيص ذات الله تعالى بهذا الوصف فائدة “.
ثالثًا- ولما كانت الرؤية تعني إدراك المرئي من الجهة المقابلة، سأل موسى عليه السلام ربه الرؤية، فقال:﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾(الأعراف: 143). ولما كانت رؤيته سبحانه غير جائزة في الدنيا، أجابه تعالى بقوله:﴿ لَن تَرَانِي ﴾، فأتى بفعل الرؤية منفيًّا بـ{ لن }، التي تدل على قصر النفي، بخلاف النفي بـ{ لا }، التي تدل على طول النفي وامتداده. فدل ذلك على أن رؤيته تعالى ممتنعة في الدنيا، جائزة في الآخرة، خلافًا للمعتزلة، الذين احتجوا بقوله تعالى:﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾(الأنعام:103) على عدم جواز رؤيته سبحانه في الآخرة. والآية حجة عليهم، لا لهم؛ لأن الإدراك إما أن يراد به: مطلق الرؤية. أو يراد به: الرؤية المقيدة بالإحاطة. والأول باطل؛ لأنه ليس كل من رأى شيئًا، يقال: إنه أدركه؛ كما لا يقال: أحاط به. وقد سُئِل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك، فقال:” ألست ترى السماء ؟ قال: بلى. قال: أكلها ترى ؟ قال: لا. “.
ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل أو البستان أو المدينة، لا يقال: إنه أدركها؛ وإنما يقال: أدركها، إذا أحاط بها رؤية. فثبت بذلك أن الإدراك في لغة العرب ليس مرادفًا للرؤية، وأنه ليس كل من رأى شيئًا، يقال في لغتهم: إنه أدركه. وكيف يقال بترادف اللفظين، وبين لفظ الرؤية، ولفظ الإدراك عموم وخصوص. أو اشتراك لفظي، فقد تقع رؤية بلا إدراك، وقد يقع إدراك بلا رؤية؛ فإن الإدراك يستعمل في إدراك العلم، وإدراك القدرة، فقد يدرك الشيء بالقدرة، وإن لم يشاهد؛ كالأعمى الذي طلب رجلاً هاربًا منه، فأدركه، ولم يره. وقد قال تعالى:﴿ فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قََالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾(الشعراء:61-62)، فنفى موسى- عليه السلام- الإدراك مع إثبات الترائي، فعُلِم أنه قد يكون رؤية بلا إدراك. والإدراك هنا هو إدراك القدرة. أي: إنا لملحقون، محاط بنا. وإذا انتفى هذا الإدراك، فقد تنتفي إحاطة البصر أيضًا.
ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكر قوله:﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾(الأنعام:103)، يمدح به نفسه سبحانه وتعالى. ومعلوم أن كون الشيء لا يرى، ليس بصفة مدح؛ لأن النفي المحض لا يكون مدحًا، إن لم يتضمَّن أمرًا ثبوتيًّا؛ ولأن المعدوم أيضًا لا يرى. والمعدوم لا يمدح، فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه. وهذا أصل مستمر، وهو أن العدم المحض، الذي لا يتضمن ثبوتًا، لا مدح فيه، ولا كمال، فلا يمدح الرب جل وعلا نفسه به. بل ولا يصف تعالى نفسه به؛ وإنما يصفها بالنفي المتضمِّن معنى ثبوتٍ؛ كقوله تعالى:﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾(الكهف: 49) مستلزم لثبوت صفة عدله، ومتضمِّن لكمالها. وقوله تعالى:﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾(البقرة: 255) مستلزم لثبوت صفة حياته وقيوميته، ومتضمِّن لكمالهما. وقوله تعالى:﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ﴾(البقرة: 255) مستلزم لثبوت علمه، ومتضمِّن لكماله، وكذلك قوله تعالى:﴿ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾(سبأ: 3).. وهكذا كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في القرآن والسنة؛ إنما هو لثبوت كمال ضده، سبحانه وتعالى !