بقلم الدكتور محمد جميل الحبال
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أكرم المرسلين سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
مما لا يخفى على المسلم أن القرآن الكريم جمع علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها إلا المتكلم به سبحانه وتعالى، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به الله سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن مسعود وابن عباس حتى قال : (لو ضاع لي عقالُ بعير لوجدته في كتاب الله) .
ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم، وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وفنونه . ولو تأملنا كتاب الله لوجدناه مشحوناً بآيات العلم، ولوجدنا أن أول آيات أنزلها الله على قلب نبيه : (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلقَ الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم) (العلق/1-5) ، ولوجدنا أنَّ الله تعالى حثَّ نبيه على الازدياد من سؤاله زيادة العلم بمثل قوله تعالى : (وقُل ربّ زدني علماً) (طه/114) حتى غدا النبي صلى الله عليه وسلم يُشّرّع للأمة قولاً وفعلاً وإقراراً وحتى لا يعتري شك تجاه تشريعاته المتماشية مع شريعة القرآن العظيم زكاه الله بقوله : (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) (النجم/3-4) ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : (ألا إني قد أوتيت القرآن ومثله معه) رواه أبو داؤود يعني السنة .
فضل الله
ثم حباه الله تعالى بعد الكتاب والحكمة والعلم بالفضل والرحمة وحماه من أهل الزيغ والضلال فكان كلامه حجة على العباد إلى يوم الدين ، وأصبح صلى الله عليه وسلم نبراساً يهتدى به إلى يوم الدين فخاطبه بقوله تعالى : (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)) (النساء/113) . وخاطبه بمثل قوله : (وإنَّك لعلى خُلق عظيم) (القلم/4) وبمثل قوله : (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين) (الأنبياء/107) . ثم خاطب أمته بمثل قوله تعالى : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) (التوبة/128) ثم أمرهم تعالى بالفرح به صلى الله عليه وسلم فقال تعالى : (يا أيُّها الناس قد جاءتكم موعظة من ربِّكم وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون) (يونس/57-58).
ومن مِنن الله تعالى عليه أن أكرمه فخاطبه بـ(يا أيُّها النبي،ويا أيَّها الرسول)، وخاطب غيره من الأنبياء باسمه فقال تعالى : (يا آدم، يا نوح، يا موسى، يا عيسى أبن مريم) الخ وأخذ الله العهد من الأنبياء كلٌّ في زمانه على الإيمان به ونصرته إن ظهر في زمانهم فقال تعالى : (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمننَّ به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم اصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) (آل عمران/81) فلا زال الأمر بين الأنبياء متناقلاً حتى بشَّر به عيسى بن مريم عليه السلام كما قال عز وجل : (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) (الصف/6) .
المعجزة الكبرى للرسول ودوام ذكره ( ورفعنا لك ذكرك )
وأيد الله تعالى رسوله الكريم كمن سبقه من الأنبياء بالمعجزة التي جعلها سبباً لهداية البشر لأنَّها خرقٌ لقوانين الكون.. فالنار مثلاً من خصائصها الإحراق جعلها الله معجزة لإبراهيم عليه السلام عندما كسر أصنام قومه فألقوة في نار عظيمة صنعوها له فقال الله تعالى (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) (الأنبياء/69) فكانت كذلك، وأيَّد الله موسى عليه السلام بالعصا فكانت تتقلب بيده كما يريد بإذن الله فمرة يراها الناس أفعى عظيمة، ومرة يتفجر الحجر بفعل ضربها عيون ماء، ومرة يضرب بها البحر فيتشقق طرقاً يعبر فيها قومه.
وأيَّد الله عيسى عليه السلام بشفاء المرضى وإحياء الموتى بإذنه وغيرها من المعجزات المذكورة في القرآن وأعطى الله سيدنا محمدا ً صلى الله عليه وسلم معجزات مادية منها تفجّرُ الماء من بين أصابعه الشريفة ومنها انقياد الشجر له ومنها تكليم الحجر له وسلامه عليه ومما لا يحصيه إلا الله تعالى .. وكل هذه المعجزات له ولغيره من الرسل والأنبياء انتهت في زمانها لكن الله تعالى ترك له معجزة مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (كتاب الله) الذي حارت بفهم علومه العقول في كل زمان ومكان إذ جعل الله فيه من العلوم ما يتعلق اليوم بعلم الدين والدنيا (العلوم الشرعية والكونية) ومن هذه المعجزات قوله تعالى لنبيه (ورفعنا لك ذكرك) ، فلا يؤذن المؤذن إلا ويقول (أشهد أن لا إله إلاّ الله) (مرتين) (أشهد أن محمداً رسول الله) (مرتين).
ذكر الرسول في كل مكان ووقت
وبمعنى آخر أن الله تعالى لا يذكر إلا ويذكر معه رسوله فالآذان إلى اليوم يطوف بالأرض ويدور مع دوران الفلك من غير انقطاع وفق خطوط الطول والعرض فلو أذن مؤذن للعصر في بغداد فإنه سيؤذن بعد دقائق للعصر في الفلوجة ثم في الرمادي وبعد نصف ساعة يؤذن للعصر في عمان ودمشق وبيروت ثم بعد ساعة في القاهرة ثم بعد 3 ساعات في لندن، وقد يؤذن للمغرب في بغداد في الوقت الذي يؤذن فيه للعصر في لندن، وفي الوقت نفسه يؤذن للعشاء والظهر والفجر في أماكن أخرى من العالم وهكذا يشع ذكر الله وذكر رسوله على فجاج الأرض شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً وفق خطوط الطول والعرض يذكره فيها 400 مليون مسلم على الأقل من أصل مليار ومائتي مليون مسلم يؤدون الصلاة في (1440 دقيقة) التي تساوي (24 ساعة) اللاتي تحتضن الليل والنهار في اليوم الواحد .. وبلغة واحدة هي لغة القرآن العظيم وبإيقاع صوتي متناسق وبديع.
وهذا المنهج الرباني أخذ بالازدياد إلى أبعد الحدود ما اهتدى الناس إلى ربّهم وأطاعوا رسولهم فهل هناك من اتباع أعظم من هذا يدخل الله به عباده الجنة قال تعالى : (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) (آل عمران/31) . هذا في الأذان، وأما ذكره صلى الله عليه وسلم في الصلاة فلا يصلي مسلم إلا ويقرأ الصلاة الإبراهيمية (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد) اتباعاً لأمر الله واقتداءً به وبملائكته كما قال تعالى : (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيُّها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) (الأحزاب/56) فالمسلمون يصلون عليه في صلواتهم وعند ذكره وفي سائر الأوقات.
السراج المنير
ومن نعم الله على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم أن جعله سراجاً منيراً للناس بهديه كما تنير الشمس ضياءً للناس ، ويشع القمر نوراً فقال تعالى بحقه
يا أيُّها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً) (الأحزاب/25).وقال تعالى بحق الشمس والقمر (هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً) (يونس/5) ، وقال تعالى (وجعلنا سراجاً وهاجاً) (النبأ/13) ، وقال تعالى (ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً، وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً) (نوح/16). فثبت من الناحية العلمية أنَّ الضياء يصدر من الشمس أو النجم المتوقد ، وثبت أنَّ النور انعكاس لذلك الضوء على الكوكب غير المتوقد كالقمر أو الأرض. فالشمس السراج الوهاج كما سماها الله تعالى، يتفاعل الوقود النووي داخلها لإنارة السماء واحتواء الظلام حالها كحال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم فإن الدعوة إلى الله تفاعلت في نفسه كتفاعل الوقود النووي داخل الشمس فأطلقت الهدي الرباني الإيماني ضياءً لإنارة ظلام النفوس البشرية وأما كونه (منيراً).
فالضوء المنعكس من المصدر الوهاج (الشمس) ينير الأجرام المظلمة في السماء كما هو نور المصطفى المستمد من نور الله تعالى، وانعكاساته بواسطة الوحي قال تعالى
قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله مَن اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) (المائدة/15-16) .في كل هذا نرى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم جمع في شخصيته بين (الضياء والنور) فهو (ضياء) في ذاته كالشمس وصفها الله بالسراج المنبعث ضياء ووصفه الله (بالسراج المنير) إذ جعله (نوراً) كالقمر في ذاته المنعكس، فهو صلى الله عليه وسلم يستقبل نوره من نور الله تعالى ويعكسه على عباد الله ويتفاعل داخل نفسه (كالشمس ضياءً) ، وينشر دعوته للناس خارجها (كالقمر نورا).
والله مـا ذرأ الإله ومــــا برا بشراً ولا ملكاً كأحمد في الورى
فعليـه صلى الله مـا قـلمٌ جـرى وجـلا الدياجـي نورهُ المتبسـم
فبحقـه صلـوا عليـه وسلمـوا
(وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً)(النساء/113)
الدكتور محمد جميل الحبال
طبيب استشاري
وباحث في الإعجاز العلمي والطبي في القرآن والسنة